<table width="10" align="left" border="0">
<tr> <td align="middle"></td></tr> <tr> <td class="imgcaption" id="Comment" dir="rtl" valign="top" align="middle">المسجد النبوي الشريف</td></tr></table>موقع القرضاوي/4-1-2010
د. يوسف القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن أتبع هداه، وبعد:
من حقِّنا نحن المسلمين أن نعتزّ ونباهي بأنَّ الله تعالى أكرمنا بهذا الدين الذي هو أعظم نعمة أنعم بها علينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. ومن تمام هذه النعمة أنه أرسل إلينا بهذا الدين خير رسله وهو محمد عليه السلام، وأنزل إلينا به خير كتبه وهو القرآن، وجعلنا بذلك الأمّة الوسط، لكي نكون شهداء على الناس.
أجل أرسل إلينا ربنا خيرَ رسله، وخاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أرسله بالهدى ودين الحق، فعلَّم الناس به من جهالة، وهداهم من ضلالة، وفتح برسالته أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غلفاً، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
ماذا أورث محمد البشرية بعده؟
إن عمر محمد عليه الصلاة والسلام كله كان ثلاثاً وستين سنة، وعمره بعد البعثة ثلاث وعشرون سنة، ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، وعشرة بعد الهجرة. ولكن هذه الأعوام المحدودة غيّرت مسير العالم ومصيره، وحوّلت مجرى البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. حتى اعتبره أحد الأمريكان (الشخصية الأولى في تاريخ البشرية).
إن الملوك يتركون وراءهم قصوراً يشيّدونها، أو حصوناً يثبّتونها، أو أموالاً يورّثونها، فماذا ترك محمد صلى الله عليه وسلم للبشرية من ميراث أو تركة تورّث من بعده؟
والحق أن محمداً صلى الله عليه وسلم ترك بعده، أو قل: أورث البشرية كلها أشياء عظيمة ونفيسة جداً، لم يورث أحد مثلها، تتمثل في أربعة أشياء:
1. القرآن الكريم، وبيانه من السنة والسيرة.
2. الرسالة العالمية الخالدة المستمدّة من القرآن والسنّة.
3. الأمة القائمة على هذه الرسالة، التي ابتدأت بالصحابة.
وسنتحدّث عن كل منها بكلمة تلقي الضوء عنه.
(1)
القرآن الكريم
وما بيّنه من السنة
أول وأعظم ما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو كتاب الخلود (القرآن الكريم).
ذلك أنَّ الله جل جلاله، أيَّد محمداً صلى الله عليه وسلم بما لم يُؤيَّد به رسولاً من رسله، فقد أُيِّد الرسل من قبله بآيات كونية، ومعجزات حسية، كما أُيِّد صالحا بالناقة، وأُيِّد موسى بالعصا تنقلب حية تسعى، وبيده السمراء، يخرجها من جيبه فتظهر بيضاء من غير سوء، وأُيِّد عيسى المسيح عليه السلام، بإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى بإذن الله.
وهذه المعجزات آيات عظيمة بلا ريب، ولكنها آيات حسية، لا يؤمن بها إلا من شاهدها، وهي لا تُشاهد إلا وقت وقوعها، فمن جاء بعد ذلك يستطيع أن ينكرها، لأنه لم يرها ولم يشاهدها بعينه.
ولكن مزية الآية أو المعجزة التي أيَّد الله بها خاتم رسله: أنها آية أدبية ومعجزة عقليه، لا تنقضي بمرور زمنها، بل هي باقية ما بقي الزمان. إنها القرآن الكريم، الذي كان من جنس ما نبغ فيه العرب، وقد نبغوا في صنف البيان والبلاغة والأدب والشعر، فتحداهم القرآن أن يأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، فعجزوا، فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فغُلبوا، فتحداهم أخيرًا أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فهُزموا وانقطعوا، وحقّ عليهم قول الله تعالى: {قل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
ولا يزال هذا الكتاب العظيم إلى اليوم يجدِّد تحدِّيه للعالم، ويتجلّى إعجازه كما لم يتجلّ من قبل. فمنهم من يتحدّى ببيانه الأدبي الفائق الرَّوعة، مثل شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: (النبأ العظيم), وسيد قطب في كتابه: (التصور الفنِّي في القرآن), والدكتورة بنت الشاطئ في كتابها: (التفسير البياني للقرآن).
ومنهم من يتحدى بإعجازه، التشريعي والإصلاحي، مثل الفقيه العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في مثل بحثه (شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله), والعلامة المجدِّد محمد رشيد رضا في كتابه: (الوحي المحمدي).
ومنهم من يتحدى بإعجازه العلمي وهم كثيرون، جلهم أو كلهم من رجال العلم الكوني، لا من شيوخ العلم الشرعي، مثل الدكتور زغلول النجار، والأستاذ عبد المجيد الزنداني، وغيرهما.
وقد قامت هيئة خاصة في (رابطة العالم الإسلامي) للإشراف على هذه القضية، ولها أبحاث كثيرة، ولعلماء الإعجاز كتب وفيرة، بالعربية وغيرها.
القرآن يؤسّس والسنة تبيّن وتفصّل:
جاء القرآن ليضع الأسس العامّة، والقواعد الكلية، والمبادئ الأساسية للرسالة الإسلامية، التي بُعِث بها محمد، وجاءت السنّة النبوية بالبيان النظري والتطبيق العملي لما نَزَل به القرآن، فقد تُخَصِّص السنّة ما عمَّمه القرآن، وقد تُقيِّد ما أطلقه، وقد تُبيِّن ما أجمله، أو تُفسِّر ما أبهمه، أو تضع النماذج العملية لما أرشد إليه من قيم مثالية، ومن مناهج كلية، وهو ما يدلُّ عليه قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] ولهذا اعتبر العلماء أن السنّة محفوظة بحفظ القرآن؛ لأنها بيانه، وحفظ المبيَّن يستلزم حفظ البيان كما قال الشاطبي، وإلاّ بقي بلا بيان.
والسنّة هي مجموع ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعل وتقريرات، وصفات خِلقية أو خُلُقية، أو سيرة.
فالسيرة جزء من السنّة ومن البيان النبوي العملي للقرآن، المتعلّق بحياته عليه السلام، كما سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت وما أبلغ ما قالت: كان خلُقُه القرآن.
فحياته صلى الله عليه وسلم تفسير عمليٌّ لهذا القرآن، فهو مصحف مفسَّر يمشي على قدميه.
ومن هنا كانت أهمية السنّة بما فيها السيرة التي خلّفها لنا رسول الله من بعده، فهي المصدر الثاني بعد القرآن في التشريع والهداية والدعوة والتربية، والتثقيف والتنوير، بما فيها من جوامع الكلم، وجواهر الحِكَم، وكنوز المعرفة، وحوافز الخير، وروائع التوجيه، وبيّنات الأحكام.
السيرة مدرسة عملية:
والسيرة النبوية خاصة مدرسة عملية، يتعلّم الناس منها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق، وحقائق الدعوة، وركائز الجهاد.
فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وهي سيرة مكتملة الحلقات، تمتدّ من الطفولة والصبا والشباب والرجولة حتى الوفاة. وكلّها محفوظة مروية معلومة، حتى أخصّ خصوصياته عليه السلام.
وهذه السيرة لشمولها وتنوُّعها وامتدادها، يجد كلُّ إنسان فيها مجالا للتأسِّي والاقتداء، فالشابُّ يجد فيها مجالا لمحمد الشاب المكافح، الذي لم يعتمد على نسبه وحسبه، ولكن رعى الغنم، واشتغل بالتجارة عاملا لأرباب المال بطريق المضاربة، بعيدا عما يشتغل به الشاب الفارغ من اللهو والمجون، مستقيما على الطهارة الأخلاقية، حتى سمَّوه (الأمين).
ويجد فيه الزوج مثالا للزوج الوفي، الذي يحرص على تكوين الأسرة الصالحة من وراء الزواج، فتزوَّج امرأة ثيِّبا ذات أولاد من غيره، تكبره بخمسة عشر عاما كما قيل، وكان معها أسعد ما يكون الأزواج مع زوجاتهم، وظلَّ يذكرها بعد وفاتها، حتى غارت منها أحبُّ نسائه إليه - السيدة عائشة - وهي في قبرها.
صاحب الزوجة الواحدة يجد فيه أسوة، وصاحب أكثر من زوجة يجد فيه أسوة، زوج المرأة الكبيرة، وزوج المرأة الشابة، زوج العربية وغير العربية، الثيِّب والبكر.
ويجد الأب فيه الأسوة، كيف يعامل أولاده، والجدُّ كيف يعامل أحفاده، كيف يلاعب الأولاد، ويداعب الأحفاد.
لا تستطيع أن تقتدي بالمسيح عليه السلام في شيء من ذلك؛ لأنه لم يتزوَّج، ولم ينجب، فلم يكن جدًّا ولا أبا، لأنه لم يكن زوجا.
ولا تستطيع أن تقتدي بالمسيح إذا كنتَ غنيًّا؛ لأنه لم يمتلك المال، حتى تعرف كيف يعمل فيه، ولا تستطيع أن تقتدي به في سلمك إذا سالمتَ، ولا في حربك إذا حاربتَ، لأنه لم يحارب ولم يسالم، وبالتالي لم يُعرف ماذا يفعل إذا انتصر، وماذا يصنع إذا انكسر.
محمد غزا وغُزي، وانتصر وانكسر، وأُخذت منه العبرة في هذا وفي ذاك. فلم يستخفَّه النصر عند انتصاره كيوم بدر، ولم يتزعزع موقفه عند انكساره مثل يوم أحد.
وقد أقام بالمدينة دولة العدل والإحسان، فكان أسوة لكلِّ إمام عادل، ينصر الحقَّ، ويبطل الباطل، ويقيم العدل على نفسه وأقرب الناس إليه، كما يقيمه على أشدِّ الناس شنآنا له، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
وأنصح الشباب المسلم الذي يريد أن يعرف خصائص السيرة النبوية المحمدية: أن يقرأ كتاب العلامة الهندي السيد سليمان الندوي في محاضراته الثماني، التي ألقاها في مدارس بالهند منذ نحو 70 عاماً، أو أكثر، وقد ترجم إلى العربية تحت عنوان: (الرسالة المحمدية).
(2)
رسالته عليه الصلاة والسلام
أمّا رسالته صلى الله عليه وسلم – التي أورثها للبشرية، والمستمدّة من القرآن والسنة – فقد تميّزت بجملة مزايا:
المزية الأولى: أنها رسالة عالمية:
أنها دون رسالات النبيين السابقين رسالة عالمية، فكان كل نبيّ قبل محمد، يبعث إلى قومه، بعث نوح إلى قومه، وهود إلى قومه عاد، وصالح إلى قوم ثمود، وإبراهيم إلى قومه، ولوط إلى قومه، وشعيب إلى مدين وأصحاب الأيكة، وهكذا كل نبيٍّ أُرسل إلى قومه ليهديهم إلى الله، وينهاهم عن عبادة الأصنام، ولكن محمداً بُعِثَ إلى الناس كافّة، وأَعلن هذا وهو في مكة، كما نقرأ ذلك في السور المكية: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سـبأ:28] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104].
ولأنَّ هذه الرسالة عالمية، فقد وضع الله فيها من المبادئ الكلية، والقواعد التشريعية، والأصول الجامعة، والمقاصد العامة، ما يصلح للبشر في كل زمان ومكان.
ولهذا دخلت الشريعة الإسلامية أُمَمُ الحضارات: فارس والروم والعراق ومصر، وسورية والهند، وغيرها من أوطان الحضارات الفارسية والرومية والأشورية والبابلية والفرعونية والفنيقية والهندية وغيرها، ولم تضق ذرعاً بالتشريع لها، ووضع حلول لمشكلاتها مستنبطة من شريعتها.
واستطاع المسلمون – بوحي من ربهم، ودافع من إيمانهم – أن يؤسِّسوا حضارة عالمية، ربّانية الغاية، إنسانية النزعة، أخلاقية الوجهة، قادت العالم قروناً متطاولة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الوحي والعقل، وبين السموّ الروحي والعمران المادي.
المزية الثانية: أنها رسالة خالدة:
أنها رسالة خالدة، ختم الله بها كل رسالات النبيين، فلا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كتاب بعد القرآن، ولا شريعة بعد الإسلام.
وقد كان كل نبيٍّ قبل محمد، يبشِّر بنبيّ يأتي من بعده، إلاَّ محمداً فهو الوحيد الذي أعلن بكل صراحة أنه خاتم النبيين {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وأعلن أن رسالته تمثل آخر لبِنَة في بنيان النبوَّة، فلا نبيّ بعده.
وقد صدَّق الزمن ما قاله عليه السلام، فبعد أكثر من أربعة عشر قرناً، لم يظهر فيها دعوى نبوّة يمكن أن يَسمع لها العقلاء. قامت دعوة البهائية، ملفَّقة من ديانات مختلفة، وهي ديانة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، وإنما تروّج تحت سلطان الغربيين.
وقامت القاديانية، تحت أسنّة رماح الإنجليز، لخدمتهم، وبقاء سلطانهم الاستعماري على الهند، فأهم ما جاءت به القاديانية: إلغاء الجهاد، وإيجاب طاعة الأولي الأمر ولو كانوا كفاراً. وفي هذا خدمة كبرى للاستعمار البريطاني، وهو ما أعلنه أحمد غلام، ولم يخفه.
ولأن هذه الرسالة هي الأخيرة والخاتمة، فقد تولّى الله حفظ هذه الأمة بحيث لا يُسلِّط عليها أمّة تُنهي وجودها ورسالتها، كما لا يهلكها بما أهلك به الأمم قبلها من الخسف والغرق، والحوادث الكونية.
كما ضَمِن أن يبقى في هذه الأمة طائفة قائمة على الحق، لا يضرُّها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، سمّاها العلماء (الطائفة المنصورة). وكذلك ضَمِن أن يبعث الله على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها. كما بشّر الحديث أنه "يحمل هذا العلم من كلّ خَلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (رواه البيهقي عن إبراهيم العذري).
وها نحن نرى مظاهر ذلك في الواقع الإسلامي، فكلما أصاب المسلمين من النكسات والنوازل ما أصابهم، هيأ الله من يوقظهم من سُبات، ويحييهم من موات، كما رأينا في الصحوة الإسلامية المعاصرة، التي ردّت الشباب المسلم إلى الاستقامة والمساجد، وردّت المرأة المسلمة إلى الحجاب والالتزام بطاعة الله.
المزية الثالثة: أنها رسالة الرحمة العامة:
أنها رسالة الرحمة العامة، كما قال تعالى له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] بهذا الأسلوب الحاصر {مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} وهي ليست رحمة للعرب وحدهم، ولا لأهل الشرق دون أهل الغرب، ولكنها (للعالمين). ويقول الرسول عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة" (رواه الحاكم عن أبي هريرة) وهو معروف بين المسلمين بأنه (نبي الرحمة) والأمة بأنها (أمة الرحمة).
تتجلّى هذه الرحمة في وُضوح العقيدة وسلامتها من الإلغاز والتعقيد، بحيث تتقبّلها الفطرة السليمة، ويؤمن بها العقل الرشيد، ولا تحتاج إلى أن يُقال لمُعتنقها: اعتقد وأنت أعمى! بل هي (نور على نور) نور الوحي على نور العقل. وتقوم على البرهان والدليل، كما قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
الله في هذه العقيدة هو الرحمن الرحيم، بل هو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، سبقت رحمته غضبه، وهو القائل في كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وتتجلّى هذه الرحمة في سماحة الشريعة، فهي تقوم على التّيسير لا على التّعسير، وعلى رفع الحرج، والتكليف بحسب الوسع، وتنويع الرُّخص والمُخفِّفات، وإباحة المحظورات عند الضرورات، كما قال تعالى بعد رُخَصِ الطهارة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] وبعد رخص الصوم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وبعد محرّمات الطعام: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].
وبعد محرّمات النكاح: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].
وبعد أن شرع العفو في القصاص، قال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "بُعثتُ بحنيفية سمحة" (رواه أحمد عن عائشة) "يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا" (متفق عليه عن أنس) وقال: "إنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تُبعَثوا معسِّرين"(رواه البخاري عن أبي هريرة).
فهي تيسِّر في العبادات، وتيسِّر في المعاملات، وتيسِّر في شؤون الأسرة، وتيسِّر في شؤون المجتمع، وفي العلاقات الدولية.
ومِنْ أعظم مظاهر الرحمة: الدعوة إلى السلام العام بين الناس، فلم يُشَرِّع الإسلام القتال إلا للدفاع عن النفس أمام العدوان، سواء كان عدواناً على الدين أم على الأرض والسيادة، أم على الأموال والممتلكات. فإذا وقع العدوان وجب الجهاد والتضحية بالأنفس والأموال، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] ومِنَ الناس من قالوا: هذه الآية منسوخة، وردّه الراسخون في العلم، بأن الاعتداء ظلم، والظلم لا يُنسخ، ولا يُباح في أي دين من الأديان.
وقال تعالى عن المشركين: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90].
ومن روائع ما نطق به القرآن قوله تعالى بعد غزوة الأحزاب التي تجمّعت فيها قريش وقبائل العرب لغزو النبيّ والمسلمين في عُقْر دارهم، يريدون إبادتهم واستئصالهم، وانضمَّ اليهود إليهم برغم عهدهم مع رسول الله؛ هنا قال القرآن: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] فما أروع هذا التعقيب: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} فلو كان محمد محبّاً لسفك الدماء، ما قال: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}.
وبعد صُلح الحديبية نزلت سورة الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] وسأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَفَتْح هو يا رسول الله؟ قال: "نعم هو فتح!" (رواه أحمد عن مجمع بن جارية). لم يتصوّروا أن يكون هناك فتح بغير حرب، إنه فتح سلمي.
وحتى لو وقع القتال بين المسلمين وأعدائهم، فالإسلام لا يغلق أبواب السلم والمصالحة، بل يقول القرآن: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] ثم قال: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62] حتى وإن أرادوا الخديعة والمكر، أرشد الله الرسول إلى قَبُول الصُّلح والسِّلم، والله حاميه من مكرهم وخداعهم!
وإذا عُقِد عهداً أو اتفاقاً بينه وبين خصومه، فمِنَ الواجب رعاية العهد، وتحريم نقضه أو التلاعب فيه، فقد وصف الله المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91].
وقد حرّم الإسلام في حربه: أن تقتل امرأة أو طفل أو شيخ كبير، وألاّ يقتل إلا من يقاتل، وأن يُقطع شجر أو يُهدم بناء، فهي حرب مضبوطة بقانون أخلاقي صارم.
ومن أراد أن يعرف الرحمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، فليقرأ ما جاء في التوراة: أن الرب قال لموسى بالنسبة للكنعانيين واليبوسيين والحيثيين وغيرهم من سكان فلسطين: (دمّرهم عن بكرة أبيهم، لا تستبق فيهم نسمة حية)! أي الاستئصال الكلي للقوم، بحيث لا تبقى فيهم من باقية. على حين أبى رسول الله استئصال الكلاب من المدينة قائلا: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" (رواه أحمد عن عبد الله بن مغفل).
ثم إن هذه الرسالة هي رسالة رحمة من كلِّ جانب من الجوانب، وكلِّ مجال من المجالات.
هي رحمة للفرد، لأنها تصلح عقيدته، وتصحِّح عبادته، وتزكِّي نفسه، وتقوِّم أخلاقه، وتسدِّده في عمله، وتوثِّق صلته بربه، وصلته بأهله، وصلته بأرحامه، وصلته بجيرانه وبالمجتمع من حوله.
وهي رحمة للأسرة، التي قال الله فيها: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وهي التي تحدَّث القرآن فيها عن العَلاقة الزوجية فقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]. وعن الأرحام والأقارب قال تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75].
وهي رحمة للمجتمع؛ لأنها تحقِّق له كلَّ مصلحة، وتدرأ عنه كلَّ مفسدة، بما تقوم عليه من وصايا وتوجيهات، ومن قوانين وتشريعات، تربط المجتمع بعضه ببعض، بحيث يصبح كالبنيان المرصوص "يشدُّ بعضه بعضا" (متفق عليه عن أبي موسى)، أو "كالجسد الواحد" (متفق عليه عن النعمان بن بشير)، إذا اشتكى عضو منه بالألم والسقم، اشتكى البدن كلُّه بالحمى والسهر. يعلِّم العالم فيه الجاهل، ويعطف فيه القوي على الضعيف، ويأخذ فيه الغني بيد الفقير، بحكم الإيمان، وهو الوازع الأول. ثم بحكم الضمير الاجتماعي القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الوازع الثاني. ثم بحكم التشريع وسلطة القانون، ورقابة الدولة ثالثاً.
ولهذا فرض الإسلام الزكاة، وجعلها الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وإقامة الصلاة. وأقام ثلاثة حرَّاس عليها، حارس من داخل ضمير الفرد المؤمن، وحارس من داخل ضمير المجتمع المسلم، وحارس ثالث من سلطان الدولة المسلمة، التي أمرها الله أن تأخذ الزكاة من أغنيائها لتردَّها على فقرائها، ولهذا جاء في القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وقد جعل منها سهماً ل (العاملين عليها) حتى لا تتعطّل بعدم تمويل تحصيلها وتوزيعها.
وأعتقد أن الدولة الإسلامية هي أول دولة في التاريخ تشنُّ حربا منظَّمة على الأغنياء من الرأسماليين والإقطاعيين الذين قالوا: نصلِّي ولا نزكِّي، فأعلن أبو بكر ومن معه من الصحابة: والله لنقاتلنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا - حبلا يُربط به البعير - كانوا يؤدُّونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
لا يجوز في ظلِّ المجتمع الإسلامي أن يعيش امرؤ جائع، وفيه مَن له فضل مال، ففي الحديث الشريف: "ليس منَّا - أو ليس بمؤمن - مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع" (رواه الطبراني عن أنس).
بل إن الإسلام لينفرد عن سائر الأديان بأنه لا يكفي أن يهتمَّ المسلم بإطعام المسكين، بل يوجب عليه حضَّ غيره على إطعام المسكين، فهو يحمِّل المسلمين عامة هذا (الحقَّ الأدبي)، أن يحضَّ كلُّ منهم على طعام المسكين، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3]، يعني: الكافر الذي لا يؤمن بالجزاء يوم القيامة.
وفي مشهد من مشاهد القيامة الهائلة، يحدِّثنا القرآن عن الإنسان الشقيِّ، الذي أخذ كتابه بشماله، وقال في حسرة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وحكم عليه الربُّ الأعلى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} ثم علَّل ذلك الحكم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:28-34]، فجعل عدم الحضِّ على طعام المسكين، بجوار عدم الإيمان بالله العظيم، تنبيها على خطورة هذا الأمر.
وقد ذمَّ القرآن المجتمع الجاهلي الذي يضيع الضعفاء فيه، بقوله: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:17-20].
فهذا هو المجتمع الرأسمالي الجشع، الذي ينشغل كلُّ امرئ فيه بنفسه، ويجمع ما استطاع من الثروة، ولا يهمُّه اليتيم الضائع، ولا المسكين الجائع: فليس في هذا المجتمع تحاضٌّ على إطعام المسكين. وإطعام المسكين كناية عن رعاية حاجاته كلِّها، إذ ليس من المعقول أن تطعمه إذا جاع، وتتركه عريانا بلا كسوة، أو مريضا بلا علاج، أو مشرَّدا بلا بيت، أو جاهلا بلا تعليم.
(3)
أمته عليه الصلاة والسلام
كما أروث محمد البشرية كتابه القرآن الكريم، وأورثها رسالة القرآن، رسالة الرحمة العالمية، أورثها (الأمّة) التي تقوم على هذه الرسالة، إيماناً بها، وتطبيقاً لأحكامها، ودعوة إليها.
وقد بدأت هذه الأمة بأفضل أجيالها، بل أفضل جيل في التاريخ، جيل الصحابة رضوان الله عليهم. هذا الجيل الرباني القرآني الذي تربّوا في مدرسته صلى الله عليه وسلم، وتخرّجوا على يديه, وهم الذين وصفهم الله بقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157], وقال لرسوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62-63], وهم الذين وصفهم القرآن بالإيمان الحق: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74], وهم الذين قال عنهم في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8-9], كما أثنى القرآن على السابقين منهم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100], فلم يكتف بوصفهم بأنهم رضي الله عنهم ورضوا عنه, بل وصف بذلك مَن اتّبعوهم بإحسان.
وهم الذين منَّ الله بنصرهم في بدر, واتّخذ منهم شهداء في أُحُد, وقالوا في غزوة الأحزاب: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22], وهم الذين بايعوا الرسول على الموت تحت الشجرة يوم الحديبية, كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18], وهم الذين خُتمت سورة الفتح بالثناء العاطر عليهم, كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29], وهم الذين قال عنهم في سورة الحديد: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" (متفق عليه عن أبي سعيد).
وقال: "خير الناس قرني ثم الذين يلُونهم ثم الذين يلُونهم" (متفق عليه عن عمران بن حصين).
ويزداد فضل هؤلاء الصحابة حين نقارن بين سيرتهم وسيرة أصحاب الأنبياء, فأصحاب موسى خذلوه حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم, ورغم الوعد والوعيد والإغراء والتحذير، قالوا بعناد: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24], وهنا دعا موسى ربه فقال: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25].
ولهذا قال المقداد بن الأسود في غزوة بدر وقد استشارهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج للمشركين: والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون, ولكننا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون!
وأصحاب عيسى من حوارييه وأقرب الناس إليه خذلوه عند المحاكمة, وأنكره حواريه بُطرس أكثر من مرة، وتبرَّأ منه مَنْ تبرَّأ, ولكنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فدَوْه بأنفسهم في الهجرة وفي الغزوات.
خصائص الأمة:
هذا الجيل هو طليعة الأمة، وأمّا أمته عليه الصلاة والسلام فقد وصفها القرآن بأربعة أوصاف:
1- الأول: أنها أمة جعلها الله، أي: هو صانعها, فهي أمة ربانية, كما قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143], فهي أمة مجعولة, كما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110], فهي أمة لم تخرج من نفسها, ولكنها أُخرجتْ, ولكنها لم تخرج لنفسها, بل أُخرجت للناس: لهداية الناس, لتنوير الناس, لإسعاد الناس, لنفع الناس. والذي أخرجها هو الله تعالى.
2- والثاني: أنها أمة (وسط) فهي أمة متوازنة, لم تغلو غلو اليهودية في الجانب المادي, ولا غلو النصارى في الجانب الروحي, لم تسرف في التحريم إسراف اليهود, ولم تقتر فيه تقتير النصارى, لم تضيّق على الفرد كتضييق الاشتراكيين, ولم تسحقه, كما فعل الرأسماليون.
إنها أمة الوسطية الجامعة, التي وازنت بين الروحية والمادية, بين الدينية والدنيوية, بين المثالية والواقعية, ربطت الأرض بالسماء, ومزجت الروح بالمادة, والخلق بالخالق, ووازنت بين الحقوق والواجبات, وجمعت بين النورين: نور العقل ونور الوحي (نور على نور), وقالت لمن يغلو في العبادة: "إن لبدنك عليك حقا, وإن لنفسك عليك حقا, وإن لأهلك عليك حقا, وإن لزورك- زوارك - عليك حقا, كما أن لربك عليك حقا, فأعط كل ذي حق حقه" (متفق عليه عن ابن عمرو).
قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم المثالي: "ساعة وساعة". (رواه مسلم عن حنظلة) أي: ساعة لقلبك وساعة لربك.
وقال لمن سأله أيقيّد الناقة أم يتوكل على الله: "قيدها وتوكل" (رواه الترمذي عن أنس).
وقال الصحابة: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً, واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
وجاء في الحديث: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة - نخلة أو شجرة صغيرة - فإن استطاع أن لا تقوم- أي الساعة- حتى يغرسها فليغرسها" (رواه أحمد عن أنس). لماذا يغرسها والساعة ستقوم ولن يبقى أحد ليأكل منها, للإيذان بأن المسلم إنسان عامل منتج معطاء حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها، أنه يتعبّد بالعمل.
3- وهي أمّة تتميّز بالخيرية على الأمم كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110], ولكنها ليست خيرية جنس, كخيرية الشعب الإسرائيلي الذي زعم أنه شعب الله المختار، بل هي خيرية أوصاف يستحقها كل من عمل بها, من أي عرق كان أو لون كان لذا قال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110], فهي متميزة بأنها أمة دعوة وأمر بمعروف ونهي عن منكر, وحاملة راية الإصلاح في العالم، كما أنها أمة إيمان بالله.
4- وهي أمة واحدة كما قال الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92], {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52], كأنما تشير الآيتان إلى أنه لا تتم العبادة، ولا تكتمل التقوى إلا باتحاد الأمة. فهي تقوم على توحيد الكلمة، كما تقوم على كلمة التوحيد. أي على توحيد المعبود سبحانه، وعلى توحيد العابدين.
هي أمة واحدة في عقيدتها, وفي عبادتها، وفي قبلتها، وفي شريعتها، وفي قيمها، وفي مناهجها، وفي آدابها وتقاليدها، وفي مصيرها المشترك, قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
وقد جسّد الإسلام هذه الوحدة بأحكام أساسية ثلاثة:
1 - وحدة المرجعية.
2 - وحدة الدار.
3 - وحدة القيادة.
وحدة المرجعية (الشريعة):
أما وحدة المرجعية, ففرض على الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها: أن تحتكم إلى الشريعة الإسلامية, التي شرعها الله لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي شريعة تحافظ على ضروريات الخلق من الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وتقوم على اليسر ورفع الحرج، ورعاية الضروريات والحاجات، وعلى تحرّي العدل ونشر المرحمة بين الناس، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثـية:18], وهذه الشريعة تجمع المسلمين ولا تفرّقهم, وتقر
|